“فتاة الثلج”.. هل يحق للصحفي أن يقوم بدور القاضي في غياب القضاء؟

0 6٬885

يلتزم الصحفيون في العالم كله بقاعدة أساسية وهي عدم تولي الصحفي قضية ذات صلة مباشرة بمصالحه الخاصة، وذلك حرصا على النزاهة المهنية، ورغم ذلك فإن أي صحفي يبقى متورطا في القضايا التي يتناولها في أعماله بصفته الإنسانية، ما دام يدافع عن القيم العليا، وينقل الحقيقة، ويمنح الصوت لمن لا صوت له.

وتلعب المصادفات الدرامية دورها حين يكلف أحد الصحفيين بقضية يتعرض خلالها أحد الأشخاص لظلم واضح، ويكون هو نفسه قد ذاق مرارته من قبل؛ هنا تصبح القضية شخصية تماما، ويصبح رفع الظلم وكشفه حتى يتاح لمن يستطيع رفعه واجبا مهنيا وشخصيا أيضا.

رواية في مسلسل

يطرح المسلسل الإسباني “فتاة الثلج ” (The Snow Girl) -الذي يعرض حاليا على منصة “نتفليكس”- هذه المفارقة بشكل حاد، حيث تبدأ طالبة الصحافة ميرين (ميلينا سميت) تدريبها في إحدى الصحف المحلية، ويتزامن ذلك مع اختطاف الطفلة “أمايا ألفارو” التي لم تتجاوز 4 أعوام من أبويها في أحد الاحتفالات الشعبية، وتحصل الصحفية المتدربة على فرصة الانضمام لفريق تغطية الحادث بعد ممانعة أولى من رئيس التحرير.

تتبع الصحفية المتدربة حدسها الذي وُلد عبر كارثة تعرضها للانتهاك من قبل مجموعة من المعتدين وتصويرها.

ينسى الكل القضية باستثناء الصحفية والوالدان، إلى أن يبعث الخاطف المجهول شريط فيديو للطفلة بعد أن كبرت للصحفية مع توصية بتوصيله لوالديها. وبينما تعجز الشرطة عن الوصول للخاطف تصل إليه الصحفية وتواجهه.

والدة الطفلة المخطوفة تعمل طبيبة نسائية، لم تنجح في علاج إحدى مريضاتها من العقم، فاختطفت المريضة الطفلة لتكون ابنة لها، وأخفتها عن العيون 10 أعوام. هي امرأة مهووسة، قتلت كل من رأى الفتاة كي لا ينكشف أمرها.

المسلسل مقتبس عن رواية بالاسم نفسه للكاتب الإسباني الشهير خافيير كاستيللو، ونشرت بالإسبانية عام 2019، وترجمت ونشرت بالإنجليزية عام 2021. ولقيت الرواية التي تنتمي لنوع الإثارة ثناء نقديا كبيرا بسبب الحبكة المعقدة والقدرة المدهشة على استخدام التشويق بمهارة.

والتزم صناع العمل بالصيغة السردية للرواية بإخلاص مبالغ فيه للدرجة التي يمكن معها القول إنهم نقلوا الكلمات المكتوبة إلى صور متحركة.

واستخدم خافيير كاستللو أسلوبا سرديا اعتمد خلاله على العودة بالزمن إلى نقطة بداية القصة في كل مرة يريد خلالها أن يقدم شخصية جديدة ذات علاقة بالقصة، وهو ما فعله صناع المسلسل؛ فأصبح مشهد اختطاف الطفلة محطة رئيسية لانطلاق حافلة السرد مع كل شخص يظهر في المشهد.

المهنة والقضية

قدمت ميلينا سميت شخصية “ميرين” الصحفية في مرحلتي التدريب والاحتراف بشكل واع تماما، وجسدت بثقة عملية التحول من الضعف والمهانة اللذين يظهران عبر مشاهد “الفلاش باك” (الرجوع) التي تستدعيها ذاكرتها في لحظات الاعتداء عليها إلى إرادة حديدية للعثور على الطفلة التي مرت على خطفها 10 أعوام.

كانت الشابة تتحرك قدما نحو الكشف الكامل عن خاطفي الطفلة، وكلما تقدمت خطوة في طريق البحث عن خاطفي “أمايا”، تقدمت خطوتين في طريق البحث عن الذين اعتدوا عليها. قدم المسلسل سباقا طموحا لرفع الغطاء عن مجرمين في قضيتين لا تربط بينهما صحفية شابة فقط، بل يربط بينهما إيقاع ذهني وعاطفي يدفع مشاعر المشاهد إلى ذروتها.

في الصحيفة الإسبانية المحلية يعامل رئيس التحرير زملاءه ومرؤوسيه بدماثة وود، لكنه يصبح حاسما حين يتطلب الأمر ذلك، ويتحول إلى حائط صد منيع حين تقترب منهم التهديدات، وبدا ذلك واضحا حين تصدى للرد على صحفيين وإعلاميين أرادوا متابعة اتهام ميرين في قتل وإحراق اثنين من المجرمين الذين شاركوا في تنفيذ وتسويق شرائط الاعتداء عليها.

الصحفية الشابة هنا لم تقم بدورها كمراقب للأحداث، بل قامت بدور فاعل وطرف في القضية، وتجاوزت دورها مرتين: الأولى حين حكمت ونفذت حكم الإعدام على المجرمين بإحراقهما، والثانية حين قامت بدور الشرطة وخاطرت بنفسها وواجهت الخاطفة لتسترد الطفلة المخطوفة. لكنه المجاز الإبداعي الذي دفع الصحفي إلى منصة القاضي والجلاد وضابط الشرطة تعبيرا عن سقوط أنساق القانون والعدالة في أيد غير أمينة.

نجح صناع العمل في تصوير الحياة لدى الخاطفة وزوجها، وجاء اختيار موقع التصوير والمناطق المحيطة التي لم تكن صحراوية تماما ولا خضراء تماما متوافقا مع غرابة المرأة التي كانت دائما في وضع استعداد للقتل حبا للأمومة.

نجح العمل في تقديم مجاز قاس تمثل في تغير حال الطفلة التي اختطفت بينما كان اسمها أمايا، وذات شعر أحمر؛ لتظهر بعد 10 أعوام فاقدة ذاكرة حنان الأبوين، ونفرت منهما، وحملت اسم خوليا، وتغير لون شعرها إلى الأسود، لتؤكد أن ذلك الفراق الطويل لا يمكن له أن يترك الأشياء على حالها حتى لو كانت تلك الحال هي الحقيقة بعينها.

وفي المستوى نفسه من القسوة، جاء فراق الزوجين رغم المحبة بعد اختطاف ابنتهما واليأس من عودتها، وانفجار العلاقة الزوجية؛ إذ كشف ذلك الخطف عن عدم التزام كل منهما بمتطلبات مؤسسة الزواج، وبالتالي فشلهما في حماية الطفلة.

“فلاش باك” جديد

يعود المخرج بالزمن مستخدما تقنية “فلاش باك” ليشرح تاريخ أزمة، أو يوضح أزمة في شخصية ما، لكن تلك العودة للشرح استخدمت في مسلسل “فتاة الثلج” على نحو يقف على حافة المخاطرة بين ملل المشاهد وعبقرية المبدع الذي يقدم القصة من جديدة في قطاع طولي عبر شخصية واحدة.

أظهر “الفلاش باك” بشكله المطول الجديد عملا مقسما إلى 3 حكايات، أو 3 أفلام، ولكل فيلم أبطاله؛ فالأول للأبوين، والثاني للصحفية، والثالث للخاطفة، وجاءت الحلقة الأخيرة لتقديم الحلول وكشف جميع الأوراق المتعلقة بألغاز الخطف والقتل في العمل.

المصدر : الجزيرة

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected] - [email protected]

قد يعجبك ايضا