“سره الباتع”.. بين مسلسل خالد يوسف وقصة يوسف إدريس

0 9٬021

“لحسن الحظ ولسوئه أيضا، لم يتح لي أن أكمل مرافعتي، فقد هجموا علينا، لم نكن ندري من أين جاؤوا، ولكن امتلأت الساحة بتلك العصي اللعينة التي يسمونها النبابيت وبالحناجر المتوحشة الرهيبة التي تصرخ: الله أكبر، ولن أحدثك عن الرعب المجنون الذي انتابنا محكمة واتهاما ودفاعا وحراسا، فقد كنا لا نزال نعاني من فوبيا الفلاحين التي تكونت لدينا”.

هكذا يصف الأديب الراحل يوسف إدريس في قصته “سره الباتع” هجوم الفلاحين بـ”النبابيت” على جنود الحملة الفرنسية، لتحرير الفلاح حامد من أيديهم خلال محاكمته الهزلية. وهو المشهد الذي نقله المخرج خالد يوسف إلى شاشة التلفزيون ضمن أحداث مسلسله “سره الباتع”، فهل نجح الأخير في إيصال ما حققه الكاتب المصري الشهير في نصه الأدبي؟

يعرض المسلسل خلال موسم رمضان الحالي، من سيناريو المخرج نفسه، بمشاركة مصطفى إبراهيم وخالد كساب، ويلعب بطولته نخبة من الممثلين، مثل حسين فهمي وأحمد السعدني وأحمد فهمي وحنان مطاوع وخالد الصاوي وأحمد وفيق وعمرو عبد الجليل وعايدة رياض.

جمهور بين زمنين

لا شك أن جمهور العمل التلفزيوني أوسع بكثير من جمهور الأدب. لقد اختار يوسف نصا أدبيا لإدريس غفا عنه صانعو السينما والتلفزيون، ربما لصعوبة إنتاجه، خصوصا أن أحداثه تدور في زمن الحملة الفرنسية، أو لأن النص لم يكن عامرا بالأحداث لملء فيلم سينمائي مشوق، على خلاف قصصه الأخرى مثل “الحرام” و”العيب” و”حادثة شرف”.

منذ الحلقة الأولى للمسلسل، يطرح المخرج رؤيته الخاصة لمعالجة قصة أدبية معروفة، فالمهووس بحكاية السلطان حامد (الممثل أحمد صلاح السعدني) -الراوي في قصة إدريس- هو الفلاح الشاب حامد (الممثل أحمد فهمي) الذي يبدأ هوسه بمقام السلطان حامد منذ الصغر، يذهب إليه يضيء له الشموع، ويصلي بجواره ويتحدث إليه. وفجأة، يعثر على مخطوطة في المكان يعتقد أنها قد تحل لغز المقام، ثم ينطلق في رحلة البحث عن ترجمة للغة الفرنسية التي كتب بها نص المخطوطة الأثرية.

بالتوازي مع الزمن المعاصر، نعود إلى زمن حملة نابليون على مصر، عندما يقود الشاب حامد كفاح الفلاحين ضد الفرنسيين في قرى الدلتا، ومن خلاله نلتقي بنماذج إنسانية مختلفة، من شيخ البلد وأئمة المساجد ونساء القرية.

ومن القصة الخيالية التي كتبها إدريس عن مقام السلطان حامد، ينطلق مسلسل “سره الباتع” إلى قصص حقيقية للمقاومة الشعبية ضد حملة نابليون، مثل قصة البطل الشعبي الشيخ حسن طوبار، أحد أثرياء البلاد الذي قاد المقاومة ضد الفرنسيين في بحيرة المنزلة والبحر الصغير عام 1798.

تشويق إدريس

اعتمد إدريس على التشويق في قصته، فقد استغرق أكثر من ثلثي القصة لشرح حيرة الراوي، الصبي الذي لا يفهم لماذا أصبح مقام سلطان مجهول اسمه حامد معلما أساسيا من معالم البلد، مثله مثل محطة السكة الحديد. وشيئا فشيئا، يكتشف أنه لم يكن سلطانا حقيقيا حاكما لمصر، وأن هناك مقامات أخرى تحمل الاسم ذاته في القرى المجاورة.

يكبر الصبي ويصبح “أفنديا”، لكن لا تزال حكاية السلطان حامد تحيره، قبل أن يكشف لنا “سر السلطان حامد” من خلال خطاب أرسله عالم فرنسي مشارك في حملة نابليون لزميله.

هذا في الكتاب، أما في المسلسل فقد كشف العمل التلفزيوني أوراقه سريعا، إذ نعرف مبكرا أن السلطان حامد هو الفلاح البسيط الجدع حامد، الذي قرر أن يتحدى بطش الفرنسيين ويقود الفلاحين في ثورتهم ضد العدو.

ثورة يناير

كما ينطلق مسلسل “سره الباتع” لاستعراض ما جرى في العام 2011، بداية من انطلاق مظاهرات “ثورة يناير”، وما تلاها من حملات انتخابية وصراع قوى سياسية وتشتت بين الثوار. ويركز على سرقة لصوص آثار المتحف المصري خلال أحداث “جمعة الغضب” في 28 يناير/ كانون الثاني، وكان غريبا أن يستعين المخرج بمقطع أرشيفي له نفسه على شاشة إحدى الفضائيات يطالب الثوار بحماية المتحف المصري.

بعد أكثر من عقد من حوادث 2011 وما تلاها، يقدم المخرج رؤيته للثورة الأحدث في تاريخ مصر، من خلال خطب مباشرة على لسان عالم الآثار الدكتور يوسف إسكندر (الممثل محمود قابيل) الذي يربط نجاح الثورة بقدرة الشباب على فرض إدارتهم، في مواجهة حركات منظمة تحاول ركوب الثورة.

من “العاصفة” إلى “سره الباتع”

عرف الجمهور المخرج خالد يوسف للمرة الأولى من فيلمه الأول “العاصفة” (2001)، الذي قدم فيه رؤيته عن أحداث حرب الخليج الثانية مطلع التسعينيات.

وخاض لاحقا تجارب سينمائية مختلفة بين الكوميديا والدراما العاطفية وقصص الحارة المصرية، ليثير الجدل في أشهر أفلامه “حين ميسرة” و”دكان شحاتة” أو “هي فوضى” بمشاركة يوسف شاهين. وغاب عن شاشة السينما منذ آخر أعماله “كارما” عام 2018، لينشغل بالسياسة واتهامه بقضايا أخلاقية جعلته يرحل عن مصر مؤقتا.

يعود يوسف في أول تجاربه التلفزيونية، ليجمع بين شغفه بقصة يوسف إدريس، وحلمه في تقديم عمل عن “ثورة يناير”، وهو أحد من أيدوها وعملوا في السياسة بعدها.

خاض سباق البرلمان، لكن رؤيته هنا ساذجة ومباشرة للغاية، تحاول أن تقول إن شباب الثورة أبرياء، ولأن الثورة كانت بلا قائد، وهناك من استولى على أحلامهم، محاولا ربط ذلك بثورة المصريين ضد الفرنسيين قبل قرنين من الزمن.

 

سخرية وإعادة اعتبار

لكن النية الحسنة والأحلام الجميلة لا تصنع مسلسلا جيدا مشوقا جذابا للجمهور، وسط منافسة شرسة من مسلسلات رمضان المتنوعة. فالمتابع لردود الفعل الأولى على حلقات المسلسل يلاحظ أن السخرية طاولت عناصر كثيرة في العمل، بداية من ملامح الجنود الفرنسيين وحديثهم بالعامية المصرية، والأخطاء في الأزياء والإكسسوارات، ثم ما أثير من جدل حول استعانة المخرج بموسيقى من أعماله السابقة من دون استئذان راجح داود، صاحب الموسيقى التصويرية للمسلسل.

ورغم الموازنة الكبيرة التي يتطلبها مسلسل تلفزيوني يدور في زمنين مختلفين، نرى مشاهد حركة ساذجة، تم تنفيذها بركاكة من دون أن تقنع المشاهد، وتثير السؤال التالي: هل الوقت لم يسعف المخرج لتنفيذ هذه المشاهد بصورة جيدة، أم أن الاستسهال هو السبب؟

يبدو المسلسل مشتتا بين محاولة صنع توازن بين المقاومة الشعبية ضد حملة نابليون وثورة المصريين ضد نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. كلتا الثورتين تبرهنان على رفض المصريين الظلم والقمع، لكن السيناريو المباشر جعل هذه المقارنة ساذجة أحيانا، لكن يحسب لصانعي العمل أنهم أعادوا المجد لـ”ثورة يناير” الغائبة عن الإعلام منذ سنوات، أو المتهمة بالفوضى أحيانا.

“تتر” مميز

أجمل ما في المسلسل “التتر” (الشارة) الرائع بكلمات الشاعر مصطفى إبراهيم وصوت محمد منير، الذي يعلو أحيانا خلال مشاهد العمل، ويبدو أنه أهم ما سيتركه الأخير في الذاكرة المصرية:

“سرك قديم يا أم الأسرار/ يعدوا روم ويعدوا تتار/ قايدة لعداكي غيطان النار/ وللحبايب قنديلك/ قبل الزمن بزمن قبله/ جه النور هنا وربط حبله/ على القلوب اللي اتقابلوا/ ومشيوا فـي ضل سبيلك”.

المصدر : الجزيرة

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected] - [email protected]

قد يعجبك ايضا